كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أولئك هم المؤمنون حقًا}
وقد كانت العصبة المسلمة الأولى تُعلم أن للإيمان حقيقة لابد أن يجدها الإنسان في نفسه، وأنه ليس الإيمان دعوى، ولا كلمات لسان، ولا هو بالتمني.. قال الحافظ الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد ابن أبي هلال، عن محمد بن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنًا حقًا. قال: «انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري. وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: «يا حارث. عرفت فالزم». ثلاثًا.
ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالمعرفة من حال نفسه، ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة. فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزًا، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتضاغون فيها، لا ينتهي إلى مجرد النظر. إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها. ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزًا إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب، فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان، ومن ورائها واقع يشهد شهادة ظاهرة بعكس ما يقوله اللسان! إن التحرج ليس معناه التميع! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب؛ والتحرج في تصورها ألزم. وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع، التي غلبت عليها الجاهلية، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة!
بعد ذلك يأخذ سياق السورة في الحديث عن الموقعة التي تخلفت عنها تلك الأنفال التي تنازعوا عليها، وساءت أخلاقهم فيها- كما يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه في خلوص وصراحة ووضوح- ويستعرض مجمل أحداثها وملابساتها، ومواقفهم فيها، ومشاعرهم تجاهها فيتبين من هذا الاستعراض أنهم هم لم يكونوا فيها إلا ستارًا لقدر الله؛ وأن كل ما كان فيها من أحداث، وكل ما نشأ عنها من نتائج- بما فيها هذه الأنفال التي تنازعوا عليها- إنما كان بقدر الله وتوجيهه وتدبيره وعونه ومدده.. أما ما أرادوه هم لأنفسهم من الغزوة فقد كان شيئًا صغيرًا محدودًا، لا يقاس إلى ما أراده الله لهم، وبهم، من هذا الفرقان العظيم في السماوات وفي الأرض. ذلك الذي اشتغل به الملأ الأعلى إلى جانب ما اشتغل به الناس في الأرض، وما اشتغل به التاريخ البشري على الإطلاق.. ويذكرهم أن فريقًا منهم واجه المعركة كارهًا؛ كما أن فريقًا منهم كره تقسيم الأنفال وتنازع فيها؛ ليروا أن ما يرونه هم، وما يكرهونه أو يحبونه، ليس بشيء إلى جانب ما يريده الله سبحانه ويقضي فيه بأمره، وهو يعلم عاقبة الأمور: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار}.
لقد رد الله الأنفال كلها إلى الله والرسول، ليعيد الرسول صلى الله عليه وسلم قسمتها بينهم على السواء- بعد استبقاء الخمس الذي ستأتي فيما بعد مصارفه- ذلك لتخلص نفوس العصبة المؤمنة من كل ملابسات الغنيمة؛ فيمتنع التنازع عليها، ويصير حق التصرف فيها إلى رسول الله كما يعلمه الله، فلا يبقى في النفوس من أجلها شيء؛ وليذهب ما حاك في نفوس الفئة التي حازت الغنائم، ثم سويت مع الآخرين في القسمة على ما تقدم.
ثم ضرب الله هذا المثل من إرادتهم هو لأنفسهم، ومن إرادة الله لهم، وبهم، ليستيقنوا أن الخيرة فيما اختاره الله في الأنفال وغير الأنفال؛ وأن الناس لا يعلمون إلا ما بين أيديهم والغيب عنهم محجوب.
ضرب لهم هذا المثل من واقعهم الذي بين أيديهم.. من المعركة ذاتها تلك التي يتقاسمون أنفالها.. فما الذي كانوا يريدونه لأنفسهم فيها؟ وما الذي أراده الله لهم، وبهم؟ وأين ما أرادوه مما أراده الله؟.. إنها نقلة بعيده في واقع الأمر؛ ونقلة بعيدة على مدّ الرؤية والتصور!
{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}.
إن رد الأنفال لله والرسول. وقسمتها بينهم على السواء، وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية.. ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها.. إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك- بالحق- لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة؛ وكراهة بعض المؤمنين للقتال.. وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال..
ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة- من كتب السيرة- أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس معه في أمر القتال، بعدما أفلتت القافلة، وتبين أن قريشًا قد جاءت بشوكتها وقوتها. وأن المقداد بن عمرو قام فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.. الخ. وأن هذا كان كلام المهاجرين. فلما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم، فقام سعد بن معاذ فقال كلامًا طويلًا قاطعًا مطمئنًا..
ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر، والذي قاله المقداد، والذي قاله سعد بن معاذ- رضي الله عنهم- لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كره بعضهم القتال، وعارض فيه، لأنهم لم يستعدوا لقتال، إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير؛ فلما أن علموا أن قريشًا قد نفرت بخيلها ورجلها، وشجعانها وفرسانها، كرهوا لقاءها كراهية شديدة، هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة:
{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}!
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره- بإسناده- عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: «إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟» فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا. فلما سرنا يومًا أو يومين قال لنا: «ما ترون في قتال القوم؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم!» فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير! ثم قال: «ما ترون في قتال القوم؟» فقلنا مثل ذلك: فقال المقداد بن عمرو: إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون...} فتمنينا- معشر الأنصار- أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم! قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون}.
فهذا ما حاك في نفوس فريق من المسلمين يومئذ، وما كرهوا من أجله القتال، حتى ليقول عنهم القرآن الكريم: {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}. وذلك بعد ما تبين الحق، وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار بعدما ما أفلتت إحدى الطائفتين وهي- العير- وأن عليهم أن يلقوا الطائفة الأخرى، وقد قدر الله لهم لقاءها وقدر أنها ستكون لهم. كانت ما كانت. كانت العير أو كانت النفير. كانت الضعيفة التي لا شوكة لها أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة.
وإنها لحال تتكشف فيها النفس البشرية أمام الخطر المباشر؛ ويتجلى فيها أثر المواجهة الواقعية- على الرغم من الاعتقاد القلبي- والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع؛ فلا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة؛ ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة حين نراها تهتز في مواجهة الخطر- على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة- فحسب هذه النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق، وتواجه الخطر فعلًا، وتنتصر على الهزة الأولى!.. لقد كان هؤلاء هم أهل بدر، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم». وهذا يكفي.
ولقد بقيت العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها: {وإذ يعدكم الله إحد الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم}.
هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك. أما ما أراده الله لهم، وبهم، فكان أمرًا آخر: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}.
لقد أراد الله- وله الفضل والمنة- أن تكون ملحمة لا غنيمة؛ وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. وأراد أن يقطع دابر الكافرين، فيقتل منهم من يقتل، ويؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف- تعالى الله عن الجزاف- وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال.
نعم. أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة؛ وأن تصبح دولة؛ وأن يصبح لها قوة وسلطان.. وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها. فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد. وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي. ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله؛ ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة؛ ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد.. وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان.
وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها. بين ما حسبته خيرًا لها وما قدره الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيرًا مما يختاره الله لهم؛ وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى. بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال!
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي- لو كانت لهم غير ذات الشوكة- قصة غنيمة. قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة. قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل. قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد؛ والحق في قلة من العدد، وضعف في الزاد والراحلة. قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي. بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها، قد انتصرت على نفسها، وانتصرت على من فيها، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحانًا ظاهرًا في جانب الباطل؛ فقلبت بيقينها ميزان الظاهر؛ فإذا الحق راجح غالب.
ألا إن غزوة بدر- بملابساتها هذه- لتمضي مثلًا في التاريخ البشري. ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة؛ وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة.. الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية.. ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها. فهي آية من آيات الله، وسنة من سننه الجارية في خلقه، ما دامت السماوات والأرض.. ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض- بعد ماغلبت عليها الجاهلية- لجديرة بأن تقف طويلًا أمام (بدر) وقيمها الحاسمة التي تقررها؛ والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}.